كيف نرجع الى القمر؟

كيف نرجع الى القمر؟
(اخر تعديل 2023-09-25 21:21:18 )

هل سبق وتساءلتم عن مدى حب الناس للفضاء والفلك فلماذا يجذب الفلك العديد من الناس من مختلف الاهتمامات والتخصصات ويجعل منهم أناس مفكرين وباحثين عن تفاصيله حتى وإن لم يكن هذا ضمن مجال عملهم ؟

إنه علم واسع ويفتح آفاق التخيل لدينا . وعند التحدث عنه نتذكرالسماء وما تحمله من أجرام لامعة كالنجوم والشمس والقمر..ونختص بحديثنا عن القمر, فلِمَ القمر؟

ويكمن السبب بأهميته في حياتنا في معرفة بداية الأشهر ونهايتها والتحري بشهر رمضان فلولاه لما استمرت الحياة على الأرض تقريباً .. وبالطبع نوره الساطع وبهاؤه الخاطف للأبصار واختلاف أشكاله وأحجامه يبعث الفضول لدينا ويجعلنا نتفكر وندرسه فهو ثاني ألمع جرم في السماء وأقرب جيراننا , وهذا ما شكل التحديات والمنافسات بين شركات الفضاء حيث تم إطلاق العديد من المهمات التي نجحت بعضها وسمحت للإنسان المشي على سطحه , وكانت آخر تلك المهمات , مهمة ارتيميس المبعوثة من شركة ناسا الفضائية .

القمر أحد آيات الله العظيمة ومعجزة الليل ( فتَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ) . وللقمر أهميات عِدًّة للحفاظ على أرضنا فبالرغم من مقدرة المجال المغناطيسي للأرض على مواجهة الرياح الشمسية الا أنّ القمر يشكل أيضاً درعاً واقياً من تلك الرياح المضرة والخطيرة , وهو المسبب في المد والجزر الذي يطهر البحار والمحيطات والأنهار من الرواسب والشوائب. والمسهل لعمليات الصيد والملاحة البحرية, ولجاذبيته دوراً مهماً في حياة الكائنات الحية إذ أنّ بعض الحيوانات والطيور تستفيد منها في الهجرة والتكاثر , بالاضافة لأهمية جاذبيته في تنظيم سرعة دوران الارض حول نفسها واستقرار ميل محور الأرض الذي يعتبر المفتاح لتنوع الفصول الاربعة على سطحنا .

كانت المنافسات تشتعل بين الإتحاد السوفيتي وأمريكا ونتيجة لتلك المنافسات أُطلقت العديد من المركبات والأقمار الصناعية وأولها (سبوتنك 1) عام (1957) المبعوثة من قُبيّل الإتحاد السوفيتي وحقق هذا القمر الصناعي نجاحاً باهرا ً في ذلك الزمن وقد كان أول قمر صناعي يصعد الى الفضاء حيث ساعد لاحقاً على فتح الطريق للمركبات الأخرى فكان بمثابة الكاشف للطريق لافادته باختباره لطريقة وضع قمر صناعي في مدار حول الارض. وهنا نقطة بداية حرب المهمات الفضائية , فبعدها أٌطلقت مختلف المهات من كلا الطرفين , وكانت أول مهمة تحمل كائن حي مهمة (سبوتنك 2) أطلقت بعد شهر من سبوتنك 1 وقد حملت كلبةً تُدعى (لايكا) ولكنها سرعان ما فقدت روحها في الساعات الأولى من إنطلاق الرحلة نتيجةً لتعرضها لدرجات حرارة عالية لم تقوى عليها جسدها الضئيل .

ولكن لم يتوقف فضول الانسان عند هذه النقطة , فقد أراد أن يصعد بنفسه ويطأ أقدامه على تلك الفوهات التي تبعث الإستغراب والانبهار , وبالفعل نجح الإنسان اخيراً بالصعود إلى القمر وتحقيق حلمه ولم تكن مرة واحدة بل ستَ مهمات ناجحة..فبعضها فشل وكان مصيرها الإنفجار وموت من فيها.

أشهر تلك المهمات هي (مهمات اوبلو) المنظمة من قِبل شركة ( ناسا الأمريكية) وهدفت إلى هبوط الرواد الأميريكين على سطح القمر وارجعاهم سالمين .. فقد كانت مهمة (أوبلو 8) عام (1968) أول مركبة يقودها الإنسان إلى القمر دونما الهبوط عليه وقد كان نجاحها مشجع لإقامة رحلات اخرى , وقد وصف الرواد ما شاهدوه من مركبتهم قائلين بأن القمر ميت وقاتم ومؤكدين بأن أجمل ما في الفضاء هو كوكب الأرض وربما كانوا يحنون إلى موطنهم و كوكبهم فإنّا ما أن نفقد ما نألفه و نحبه نشتاق له فلا شيء بعد الوطن !

وكانت أوبلو (11) أول مهمة تسمح للإنسان المشي على سطح القمر والاحتفاظ ببعض التربة منه كتذكار, واستمرت تلك المحاولات وصولا ( بأوبلو17) وهي الأطول بينهم فكانت مدتها 12 يوما, وبعدها انقطع طريق السفر إلى القمر..

لماذا إنقطع طريق السفر إلى القمر؟ وما هي الأسباب التي جعلتنا نبتعد عن قمرنا الوحيد كل تلك السنين؟

تعددت الأسباب ..بعضها يقول بأن التكلفة عالية ولا تطيقها أي حكومة أو منظومة فإن ميزانية مشروع فضائي لا تقل عن مليارات الدولارات , و بعضها يقول بأن الوصول لم يحصل بالفعل وهذا ما أوافقه قليلا.. وأن السباق بين الاتحاد السوفيتي وأميركا قد خَمدت نيرانه و انتهى ..والسبب الأكثر ترجيحا أن السفر لأجرام أًخرى كالكواكب الداخلية يحمل فائدة أكثر لنا فنحن نحب الإكتشاف واطلاق عنان مخيلاتنا إلى أبعد ما يمكن فلِمَ لا نذهب إلى المريخ أو الزهرة ونحتفظ بتذكرانا كما في القمر؟ إذاً حقاً لم يعد السفر على ذلك اللامع بألامر الشيق والمهم فلنحبث على سبيلنا للكواكب لنمتع أعيُننا بالغروب الأزرق على سطح المريخ مثلاً .. لنشاهد موطننا من سطح الكوكب الأحمر لنرى ألوانه البديعة لنتسابق ونرى من حفظ دروس الجغرافيا ونعدد أسماء المحيطات والمناطق من الأعلى !

ولكن ذلك اللامع يطل علينا كل ليلة كأنه يقول ها أنا هنا عودوا اليّ فأنا أحمل معلومات مهمة وجديدة فأنتم بتقدمكم وتطوركم وأنا بمحتوياتي المخبئة ..

وبالفعل قد تم تلبية نداء قمرنا , وهذه المرة ليس التصدر للاتحاد السوفيتي , بل لناسا. الآن بعد إنقطاع دام 50 عام , بعد عدة محاولات مصحوبة بالاشتياق للمشي على هذا الجسم اللامع ..أعلنت شركة ناسا عن مشروعها الجديد باعثةً ً الأمل وفاتحةً لآفاق جديدة , مذكرةً إياّنا تاريخ السفر نحو القمر . إنه مشروع (ارتيمس ) الأخت التوأم لأوبلو( اله الشمس) كما قالت ناسا واسم اله القمر كما في الاساطير الإغريقية, وبناء قاعدة قمرية أهم ما سيحققه المشروع ,فهذه المرة على حسب قولهم لن يكتفوا بوضع الأعلام واخد التذكار و لا بترك بعض اثار الاقدام .. فقد عادوا بكل قوتهم.

المشروع على ثلاث مراحل وفي كل مرحلة مهمة معينة , أول مراحله (ارتميس1) ومن أهدافها إطلاق مركبة أوريون وهي كبسولة حديثة وغير مأهولة سيتم إطلاقها على الطريقة الروسية بواسطة صاروخ حاملوهو أقوى صاروخ مطور من قبل ناسا وستساعد أوريون على إختبار درجات الإشعاع، والاهتزازات، والحرارة، عند عبور الغلاف الجوي . وستتخذ مسارها التراجعي حول القمر ( أي المعاكس لاتجاه دورانه) دونما الهبوط عليه ومن المقرر أن تصل مدة رحلتها الى 25 يوما قاطعة مسافة 1.4 مليون ميل, نهاية بالهبوط على ساحل باخا في ولاية كاليفورنيا الأمريكية ..

وأهم ما يميز (ارتميس1) بأنها ستحمل 10 أقمار صناعية صغيرة وثلاث دمى تجريبية تحاكي أجساد البشر صممت لأهداف إختبار مدى تحمل وتكيف البشر في الفضاء ,وقد صنعت الدمى بدقة عالية حيث أنها احتوت على عظام وبعض من الأعضاء الداخلية وأجهزة الاستشعار لتحقيق أفضل النتائج المختبرة. وأما عن المظهر الخارجي للمركبة فهو مخروطي الشكل ولهيكلها قدرة عالية على تحمل درجات الحرارة العالية..

يشكل نجاح هذه المهمة آمال كبيرة لاطلاق المهام الأخرى وستبني سلما لنا حتى نصل الى المريخ! وتؤمن ناسا بذلك فالايمان بالنجاح هو أول خطواته وتحديد الأهداف المرجوة للمشروع أساس تحقيقه كما في ارتيميس حيث انه خطة مدروسة تمام الدراسة وكما أن ناسا قررت العودة بقوة فهي تدرك حتما ماعليها فعله . فبالفعل نجحت أول مهمة رغم تأجيلها أكثر من مرة وقد تم وصفها بأنها باهرة النجاح وهذا ماشجعنا لاتمام باقي المشروع , فأن نصل متأخرا خير من أن لا نصل ابدا.

(ارتميس 2) هي المهمة الثانية والمأهولة من المشروع ومن المقرر إطلاقها في شهر مايو من عام 2024 وفيها سيتم إطلاق أول امرأة ورجل من غير البيض إلى الفضاء..ستحمل مركبتها 4 رواد فضاء وستسمح لهم بالدوران حول القمر ولن يهبطوا عليه فان مهمتهم استكشافية تكمن بالبحث والتحقق من وسائل دعم الحياة على سطح القمر ( لونا ) ومدتها 10 أيام ومن المقرر أن تهبط على المحيط الهادئ .. وهل سيكون رأي روادها عن القمر كرأي رواد أوبلو 8 أم أن الاشتياق بعد الانقطاع سيغير فكرتهم ويجعلهم أكثر حماساً ؟ وكيف لانشتاق للقمر وهو أروع مافي السماء ويحمل العديد من الأسرار, فيا بَدرُ إِنَّكَ وَالحَديثُ شُجون مَن لَم يَكُن لِمِثالِهِ تَكوين.

أما المرحلة الثالثة والمأهولة هي (ارتيميس 3) التي ستطلق في شهر اوكتوبر من عام (2025) ستحقق أخيرا ًماتتنظره بفارغ الصبر , وهو وصولنا إلى قمة سلم نجاح مشروعنا , فسيهبط روادها على سطح قمرنا بعد كل تلك السنين , ومن المقرر أن يهبط رائدان من الأربع رواد عند منطقة القطب الجنوبي وستطأ المرأة أقدامها أولا على القمر ومن ثم الرجل وستكون مدة رحلتهم أسبوعاً تقريباً كافٍ لتنفيذ أربع عمليات سير ومن ثم تفعيل عمليات الرصد المتنوعة العلمية, فخير مانبدأ فيه مسيرتنا هو العلم , وان أحد أهداف الأبحاث التحقق من وجود المياه في القطب الجنوبي حيث أنه يعد مهماً لتحويله وجعله وقوداً للمركبات الفضائية التي ستقطع مسافات أكبر وتذهب إلى المريخ على سبيل المثال , وهذاسيكون أحد خيوط نجاح مهمات المريخ , ففي إحدى مهمات الفضاء عام (2009) أُكتشف عن طريق المركبة الهندية ( تشاندرايان-1 ) وجود بعض المياه المحبوسة في صخوره , إذ أن بعض الجليد يبقى في حفر القمر نتيجة لميله وعدم تعريض بعض أجزاءه لضوء الشمس. وبالطبع يعتبر ذلك خبراً رائعاً ومحمساً لسفرات الأبحاث القمرية.

وإن نجح مشروع ارتيميس فإنه من المتوقع لإطلاق المشروع الاضخم (من القمر الى المريخ) وهنا ستطلق رحلات مأهولة من القاعدة القمرية التي ستُبنى بفضل ارتيميس إلى المريخ, أما هذه القاعدة فستضم منزلاً متنقلاً يسمح للرواد بالبقاء لفترة أطول على سطحه لمدة تصل إلى شهرين وستشكل هذه النقطة ثروة فضائية فسيصبح حلم الإنسان حقيقة وبأخف المشاكل والعواقب ولربما سنخطوا بعدها إلى كواكب أخرى حتى وإن كان هذا خيالاً فًلِمَ لا يتحقق بعد المثابرة والمحاولة ؟ فكما كُنّا نحلم بالصعود إلى القمر استطعنا صعوده بعد سعي كبير , وهذه هي المسيرة العلمية تبدأ بتخيل ثم بدراسة ثم بعمل جاد واخيراً نتنهي بالوصول .

بالطبع قد إختلف بناء مركبة أوريون عن ما سبقها كمركبة أوبلو على الرَغم من تشابه العديد من الصفات الهندسية الملحوظة , فالإختلاف الرئيسي يكمن بأن أوبلو قد صممت للوصول إلى القمر بينما أوريون لديها رؤية أبعد وأعمق من ذلك فقد صممت للوصول إلى مسافات مابعد القمر , وتعتبر أوريون أكبر من أوبلو حيث أنها تَسعْ لِستةِ أشخاص بينما أوبلو تستوعب نصفهم بدون وجود مرحاض , فأوريون تحتوي على مرحاض وآلة تمرين و ملجأ لرواد الفضاء لغايات الحماية من التعرض للاشعاع الشمسي , وعلى الرغم من إحتوائهم على نفس المادة الموضوعة على الدروع الحرارية الواقية إلا أن اوريون قد طٌورت لتحمل درعاً واقياً أكثر تحملاً للحرارة من غيرها . وقد أكدت ناسا على مدى تطور نظام التحكم في اوريون واصفةً إياه بأنه أقوى بأربعة الآف مرة من الذي حملته أوبلو , وبالتالي فإن أوريون تُنتج طاقة أكبر نظراً لاستخدامها ألواحاً شمسية وبطاريات لتوليد الطاقة بدلاً من خلايا الوقود. وهذا ما يجعلنا نقول بأن أوريون هي النسخة الأقوى على الاطلاق.

كوننا واسع أكثر مما يستطيع تخيله عقل بشر فسبحان من صنعه و أبدعه و جعل فيه آيات لنا لنهتدي به , سبحان من كَوّر الأرض وجعلها بيتا نسكنه وسخّر لنا الشمس والقمر , سبحانه رب السماوات والارض وانه هو رب الشعرى . فان دراسة الفلك الذي يعتبر من أقدم العلوم في التاريخ والتعمق بمواضيعه يرسخ لدينا مفاهيم الايمان ويقويها فهو بحر لا نهاية له وهذا ما تؤكده الأبحاث والدراسات , فمع كل بحث جديد معلومات جديدة لذلك نرى كُثرة تنوع مجالات الفلك التي تدرس كل منها موضوع معين وتشكل جميعها اخيراً شبكة موصولة و قوية , و نحن نشهد تطور ضخم مصحوب بالاهتمام الكبير في مجال علوم الفضاء يجعلنا نصل لأعماق الكون ودائماً مانبدأ مشوارنا بجارنا القريب (القمر).

انتهى